/ الفَائِدَةُ : (103) /

29/04/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / دُرُوْسٌ مُذْهِلَةٌ تستفيدها البشريَّة من مدرسة عَالَم التَّكوين / يَجْدُرُ الْاِلْتِفَات : أَنَّ كثيراً من النُّظُم القانونيَّة مُستفادة من خلال قراءة وتصفُّح علماء القانون للمجتمع الحيواني في الغاب ، وكثير من تعقُّل الدُّوَل العظمىٰ فيما بينها وحلّ الأَزمات ـ لا بوسيلة الإِحتراب والتصفيات ـ أَخذوها من أَجواء الغابة ؛ فإِنَّهم وجدوا في تعامل كواسر الحيوانات فيما بينها وفي مدٍّ نفوذها : أُصولاً وأَخلاقيَّات وموازنات قوىٰ ، والْاِلْتِجَاء إِلى الحرب السَّاخنة لا يكون إِلَّا من باب آخِر الدَّواء الكَيُّ. وكذا وجد علماء الإِدارة من خلال تسليط عدسات المراقبة علىٰ مماليك نمل ـ يزيد سكَّانها أَضعاف سكَّان ولاية فلوريدا ـ : أَنَّها إِذا أَرادت الِانتقال وتغيير مكان مملكتها وفَّرت لها ما يُؤمِّن ويُنظِّم عمليَّة الِانتقال ؛ من مخازن أَغذية ، ومسؤولين ، وجيش ، وشرطة مرور وما شاكلها ، واستفادوا منها : دروس مذهلة ، ونُظم في علم الإِدارة لم تحفل بها البشريَّة من قبل قَطُّ. وهناك مقاطع كثيرة في عَالَم الخلقة فهم منها أَصحاب الِاختصاص فِكرَاً جُدُداً للمساواة والعدالة والحريَّة . وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي ، منها : ١ـ قوله عزَّ وجهه : [ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ](1) . ٢ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في الخبر المُشتهر بتوحيد المُفضَّل بن عمر: « ... يا مُفَضَّل ، إِنَّ الشُّكَّاك جهلوا الأَسباب والمعاني في الخِلْقَة ، وقَصَرَت أَفهامهم عن تأَمُّل الصَّواب والحِكْمَة فيما ذَرَأَ الباري جلَّ قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البرِّ والبحر والسَّهل والوعر ... فإِنَّهم لَـمَّا غَرُبَت أَذهانهم عن معرفة الأَسباب والعِلَل في الأَشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارىٰ ، ولا يفهمون ما هو عليه من إِتقان خلقته وحسن صنعته وصواب تهيئته ، ورُبَما وقف بعضهم علىٰ الشيء ؛ لجهل سببه والإِرْب فيه فيسرع إِلى ذمِّه ووصفه بالإِحَالة والخطأ ... يامُفَضَّل ، أَوَّل العِبَر والأَدِلَّة علىٰ الباري جلَّ قدسه تهيئة هذا العَالَم ، وتأليف أَجزائه ونَظَمها علىٰ ما هي عليه ؛ فإِنَّكَ إِذا تأمَّلت العَالَم بفكركَ ؛ وميَّزته بعقلكَ وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إِليه عباده ... والإِنسان كالمُمَلَّك ذلك البيت ، والمخوَّل جميع ما فيه ... فكِّر يا مُفضَّل ، في خلقة عجيبة جُعلت في البهائم ؛ فإِنَّهم یوارون أَنفسهم إِذا ماتوا كما يواري النَّاس موتاهم ، وإِلَّا فأَين جيف هذه الوحوش والسِّبَاع وغيرها لا يُرىٰ منها شيء ؟ وليست قليلة فتختفي لقلَّتها ، بل لو قال قائل : إِنَّها أَكثر من النَّاس لصدق ... وكُلّها لا يُرىٰ منها شيء إِذا ماتت إِلَّا الواحد بعد الواحد ؛ يصيده قانص ، أَو يفترسه سَبُع ، فإِذا أَحسُّوا بالموت كمنوا في مواضع خفيَّة فيموتون فيها ، ولولا ذلك لِامْتَلَأَتْ الصَّحاري منها حتَّى تُفْسِد رائحة الهواء ؛ ويحدث الأَمراض والوباء ، فانظر إِلى هذا الَّذي يخلص إِليه النَّاس ، وعملوه بالتمثيل الأَوَّل الَّذي مُثِّل لهم كيف جُعل طبعاً وادِّكاراً في البهائم وغيرها ؛ ليسلم النَّاس من مَعَرَّة ما يحدث عليهم من الأَمراض والفساد . فكِّر يا مُفضَّل ، في الفِطَن الَّتي جُعِلَت في البهائم لمصلحتها بالطَّبْع والخلقة لطفاً من الله عَزَّ وَجَلَّ لهم ؛ لِئَلَّا يخلو من نعمه جلَّ وعزَّ أَحد من خلقه لا بعقلٍ ورويّة ... وليس في الخلقة شيء لا معنىٰ له ... فإِذا أَردتَ أَنْ تعرف سَعَة حِكْمَة الخالق وقِصَرَ علم المخلوقين فانظر إِلى ما في البحار من ضُرُوب السَّمَك ، ودوابّ الماء والأَصداف ، والأَصناف الَّتي لا تُحصىٰ ولا تُعرف منافعها إِلَّا الشيء بعد الشيء يُدْرِكه النَّاس بأَسبابٍ تحدث ؛ مثل القِرْمِز ؛ فإِنَّه إِنَّما عرف النَّاس صبغة بأَنَّ كلبةً تحول علىٰ شاطئ البحر، فوجدتُ شيئاً من الصنف الَّذي يُسمَّىٰ الحَلَزون ، فأَكلته ، فاخْتَضَب خَطْمها بدمه ، فنظر النَّاس إِلى حسنه فاتَّخذوه صبغاً ، وأَشْبَاه هذا مِمَّا يقف النَّاس عليه حالاً بعد حال ، وزماناً بعد زمان ... و هل يخفىٰ علىٰ ذي لبّ أَنَّ هذا تقدير مُقَدِّر، وصواب وحِكْمَة من مُقدِّر حكيم ؟ ...» (2) . ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة. وعليه : فليس من الصَّوَاب أَنْ لا يَجعل المخلوق لشيءٍ ـ وإِنْ كان علىٰ نحو المفهوم ـ قدراً مُعيَّناً ، ومن ثَمَّ لابُدَّ أَنْ يُجعل للرأسماليَّة ، والصَّرَف ، والاِستهلاك ، والمفهوم : الِاقتصادي ، والزراعي ، والتجاري ، والجنس وَهَلُمَّ جَرّاً قدراً مُعَيَّناً ، ولا يُستثنىٰ من ذلك إِلَّا الحقيقة الأَزليَّة ؛ العزيز الجبَّار ، «الَّذي ليست له في أَوَّليَّته نهاية، ولا في آخريَّته حدّ ولا غاية» (3). وبالجملة : الخِلْقَة الْإلَهِيَّة وعَالَم التَّكوين قرآن يُعطِي دروساً لجملة النُّظم ، منها : القانونيَّة ، والإِداريَّة ، ومن ثَمَّ لا يُظنُّ أَنَّ عَالَم الخِلْقَة الْإلَهِيَّة لغة تُمارس في الخطاب الدِّيني فحسب ، بل تشمل كُلَّ ما يهدي البشريَّة ويُنَظِّم أُمورها وشؤونها الحياتيَّة والمعيشيَّة سوآء كان في الرؤية الأَيدلوجيَّة ، أَو الفلسفيَّة ، أَو الحقوقيَّة ، أَو القانونيَّة ، أَو السياسيَّة ، أَو الِاقتصاديَّة وَهَلُمَّ جَرّاً ، فالباري تبارك اسمه يُعطي من خلال عَالَم التَّكوين دروساً لا منتهىٰ لها ؛ وفي كُلِّ العلوم في كيفيَّة الهداية والرَّشاد ، من أَدقِّ التَّفاصيل إِلى أَعظم المحاور العقائديَّة . إِذَنْ : كُلُّ العلوم والمعارف مطويَّة في خِلْقَة عَالَم التَّكوين . وعليه : فلا يوجد اِختراع بشري البَتَّة إِلَّا وقد اُسْتُنْبِط واُسْتُخْرِج من ظاهرة تكوينيَّة مُعيَّنة ؛ فالمَرْكَبَات الفضائيَّة ـ مثلاً ـ ، والطَّائرات ، والسُّفُن ، والغوَّاصات ، والصَّواريخ ، والأَقمار الصناعيَّة ، وكافَّة الأَسلحة وغيرها لابُدَّ أَنْ يكون اِكتشافها وتصنيعها مستفاداً من درس وكتاب تكويني لا يتصرَّم ولا يتقوَّض أَبداً، بسطته يد السَّاحة الْإلَهِيَّة في عَالَم الخِلْقَة والتَّكوين . ولَكَ أَنْ تقول : إِنَّ هناك مطلباً توحيديّاً مُهمّاً ، يُوصِل الباري سبحانه وتعالىٰ معناه في نَمَطٍ من أَنماط الخِلْقَة الْإلَهِيَّة ، حاصله : أَنَّ كُلَّ مشهدٍ تَكْوِيْنِيٍّ خَلَقَته وبسطته يَدُ السَّاحة الْإلَهِيَّة عبارة عن رسالةٍ وخطابٍ منه تعالىٰ إِلى جميع مخلوقاته ، فهو تكلِّمٌ بالخَلْقِ إِلى الخَلْقِ ، وله مغزیٰ وتأويل ، أَراد سبحانه به معنىً مُعيَّناً يتخطَّىٰ معنىً آخر ، فقوله جلَّ وتقدَّس : [ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] (4) كَلَامٌ وتَكَلُّمٌ منه (جلَّ اسمه) مع المخلوقات بـ : (أَنَّه علىٰ كُلِّ شيءٍ قدير) ، فكما أَنشئ النَّبيّ آدم عليه السلام من غير أَبٍ أَنشئ كذلك النَّبيَّ عیسی عليه السلام . وقوله تقدَّس ذكره : [ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ] (5) بيانٌ علىٰ أَنَّ كُلَّ آيةٍ ودلالةٍ وجوابِ سؤالٍ يبتغيه المخلوق موجوذٌ في عَالَمِ التَّكوين؛ فعَالَمُ التَّكوين : عَالَمُ خطاب ونجوىٰ وكلام إلَهِيّ . / شمول ساحة التَّأويل للخطابات التَّكوينيَّة / ثُمَّ إِنَّه ينبغي الِالتفات : أَنَّ أَهل المعرفة والفلاسفة والمتكلِّمين والعرفاء والصوفيَّة اِستفادوا من ساحة التَّأويل في منهاج أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الشيء الكثير ؛ فساحة التَّأويل لا تقتصر علىٰ الكلامِ اللَّفظِيّ، بل تشمل الكلام التَّكويني أَيضاً، وهو خِطَابٌ من الباري تقدَّست أَسماؤه إِلى جملة مخلوقاته ، فهو تكلِّمٌ بالخَلْقِ إِلى الخَلْقِ ـ كما تقدم ـ . ومعناه : أَنَّه لا يمكن للمُتدبِّر الوصول إِلى المعنىٰ العقلي إِلَّا بتوسُّط منهج التَّأويل ، المستفاد جملة منه من عَالَمِ التَّكوين. وإِنْ شئت قلتَ: إِنَّ المَعْزَىٰ العقلي لا يمكن اِستخراجه بالمباشرة من ظاهر وسطح الكلام إِلَّا بقطع المُتدبِّر مسافة السَّطح إِلى العمق. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) القمر: 49. (2) بحار الأَنوار، 3: 57 ـ 151. (3) توحيد الصدوق، ب2: التوحيد ونفي التشبيه: 33/ح1. (4) النساء: 171. (5) يوسف: 7